إعلام اللحظة.. بين غواية التريند وضياع الرسالة

د. محمد مهني البحراوي يكتب:

في زمن تتسارع فيه الإيقاعات، وتتصارع فيه المنصات، أصبحت التريندات نافذة الجمهور إلى العالم الرقمي، ومحددًا رئيسًا لأولويات التناول الإعلامي، غير أن الإشكالية لا تكمن في التريند بوصفه ظاهرة تواصلية؛ بل في طبيعة المحتوى الذي يتصدر المشهد ويستحوذ على الانتباه.

في كثير من الأحيان وللإسف الشديد، تتفوق التريندات التافهة والسطحية على الموضوعات الجادة والقضايا الجوهرية التي تهم الوطن والمواطن، في مشهد يعكس اختلالًا واضحًا في بوصلة الاهتمام الإعلامي، ويكفي أن نتأمل ما حدث خلال ذكرى نصر السادس من أكتوبر، حين غابت التغطيات الجادة والمحتوى الوطني الهادف، واحتل التريند المتعلق بأشياء سطحية تافهة، لتُختزل اهتمامات الجمهور في مشهد عابر وتفصيل هامشي، لا يسمن ولا يغني من جوع.

هذه الظاهرة تكشف عن أزمة أعمق في بنية التلقي، حيث باتت خوارزميات المنصات الاجتماعية توجه الانتباه، لا بحسب أهمية المحتوى، بل بمدى انتشاره وقدرته على إثارة الانفعال اللحظي، وهكذا يتم تهميش القضايا الكبرى، وتُستبدل الثقافة بالترفيه المفرغ من المعنى، ويصبح معيار القيمة هو حجم التفاعل، لا جودة الفكرة ولا أهميتها ولا مدى النفع العائد منها للناس.

ولكن للحق أن التريندات ليست كلها شرًا مطلقًا، فهي أداة يمكن توظيفها لخدمة الوعي إذا تم التعامل معها بمهنية وذكاء، فالمشكلة لا تكمن في آلية الانتشار، بل في المحتوى الذي يُضخ داخل هذه الآلية، وهنا تبرز الحاجة إلى إعلام قادر على استثمار منطق التريند دون أن يقع في فخه، إعلام يُعيد توجيه الانتباه نحو ما يفيد، لا ما يستهلك الذهن والوقت دون طائل.

فالمطلوب اليوم ليس مقاومة التريند، بل صناعته على أسس من الوعي، وهذه مسؤولية يتقاسمها الإعلاميون، وصانعو المحتوى، والمؤسسات الثقافية، فحين يتحول التريند إلى وسيلة لطرح الأسئلة الحقيقية، وتقديم محتوى يجمع بين الجاذبية والمعنى، يمكن للإعلام أن يستعيد دوره التنويري، بعيدًا عن التسطيح والمبالغة.

إن التحدي الأكبر لا يكمن في كبح جماح التريندات التافهة، بل في إنتاج بدائل أكثر وعيًا وجاذبية، تفتح أمام الجمهور آفاقًا جديدة من التفكير، وتمنح القضايا الكبرى ما تستحقه من اهتمام، فالمشهد الرقمي، مهما بدا فوضويًا، لا يزال قابلًا للتشكيل إذا توفرت الإرادة والاحتراف.

مشاركة علي

إرسال التعليق