عندما يصبح القتل وسيلة للشهرة

أحمد طنطاوى يكتب…

في وقت بقينا فيه نعيش لحظاتنا من خلال الشاشات، ونتفاعل مع الواقع كأننا مجرد مشاهدين لبرنامج لايف، ظهرت ظاهرة غريبة ومقلقة في نفس الوقت، وهي إننا نشوف حادثة أو جريمة، مش علشان نساعد أو ندافع أو حتى نواسي، لكن علشان نصور. بقت اللحظة المؤلمة اللي ممكن تغيّر مصير شخص أو أسرة بالكامل، مجرد فرصة عابرة لحدّ يحب يطلع ترند، أو يسبق غيره في عدد اللايكات.

اللي بيحصل حوالينا مش طبيعي، ولا إنساني، لكنه بقى مألوفًا لدرجة مرعبة. شخص بيتعرض لعنف في الشارع؟ نطلع الموبايل. بنت بتتعرض للضرب أو التهديد؟ نفتح الكاميرا.

حد بيقع ضحية حادثة أو اعتداء؟ نوقف ونصور وكأننا بنغطي حدثًا فنيًا، مش جريمة أو كارثة إنسانية. وبعدين، لما نرفع الفيديو، كل هدفنا إنه “يكسر الدنيا” على السوشيال ميديا، يجيب ترند، يحقق انتشار، حتى لو كان على حساب دم، أو على حساب إنسان بيموت.

أكتر حاجة توجع في الظاهرة دي إنها مش مجرد سلوك فردي، لكنها بقت جماعية. الناس بقت بتتجمع حوالين الحدث، بس مش علشان تساعد، بل علشان تصور من زاوية أحسن.

بنشوف الموبايلات مرفوعة، والناس بتستنى اللحظة الصح، لحظة الدم، لحظة الانهيار، لحظة الموت، علشان تضمن إن الفيديو “يضرب”.

وسط ده كله، كانت جريمة نيرة أشرف واحدة من الأمثلة اللي وجعت الناس، وكشفت لنا إحنا بقينا فين. طالبة في بداية حياتها، بتدخل باب كليتها، لكن بتتقابل بمجرم ناوي يقتلها، وفعلاً بيقتلها قدام عشرات الناس.

الناس اللي كانوا حوالين نيرة، مش كلهم خافوا، ومش كلهم اتفاجئوا، لكن عددًا منهم كان أول تصرف ليه إنه يفتح الكاميرا، ويصور، بنت بتتدبح في الشارع، والناس بتصور، واللي صور، نشر، واللي نشر، جاب مشاهدات، واللي اتفرج، شارك، واللي شارك، نسي إن ورا المشهد ده، في حياة انتهت، وفي أهل بيموتوا بالبطيء.

نيرة مش الحالة الوحيدة، لكنها من أوضح النماذج، فيه غيرها كتير، بس مش كلهم اتصوروا بنفس الجودة، ومش كلهم جابوا ترند بنفس القوة، وده في حد ذاته دليل على إننا بقينا نقيم الحوادث من زاوية قابليتها للانتشار، مش بشاعتها أو أذاها. بقينا نقول “شوفت الفيديو؟” قبل ما نقول “الله يرحمها” أو “إزاي حصل كده؟”.

اللي يزود الطين بلة إن فيه ناس شايفة إن التصوير له فايدة، وبيساعد في التحقيقات، أو بيكشف الحقيقة، وده في بعض الحالات ممكن يكون حقيقي، لكن الغالب مش كده. الغالب إن التصوير بيحصل بدافع الفضول، أو الهوس بالظهور، أو رغبة في جذب الأنظار، مش بدافع إنقاذ أو مساعدة أو حتى إبلاغ.

الموضوع اتنقل من مرحلة اللامبالاة، لمرحلة المشاركة السلبية، اللي هي أخطر، كل حد بيشوف حاجة غلط، وبيسكت، كان في يوم من الأيام متهمًا بالصمت، لكن دلوقتي بقى فيه ناس بتشارك في الغلط من غير ما تحس، مجرد إنها تصور وتنشر وتعمل محتوى من مصايب غيرها. بنستهلك الألم كمنتج، وبنحوّل الضحايا لعناوين، وبننسى إننا ممكن نكون مكانهم في يوم.

المشكلة مش في التكنولوجيا، ولا في الموبايل، لكن في إحساسنا اللي بيقل كل يوم، في إن الرحمة بقت أقل من قبل، وإن الشهرة بقت أغلى من الضمير. بقى الناس عايزة أي حاجة توصلها للناس، حتى لو كانت جريمة، حتى لو كانت روح بتطلع.

اللي بيصور مش دايمًا جبان، لكنه دايمًا مختار يبعد عن الإنسانية، اختار يكون مجرد ناقل، شاهد من بعيد، مش فاعل، ولا منقذ، ولا حتى صوته كان عالي، واللي بينشر، بيزود عدد اللي بيتفرجوا، لكن بيقلل عدد اللي بيتحركوا، وإحنا محتاجين العكس، محتاجين ناس تتحرك، مش تتفرج، ناس تساعد، مش تنشر، ناس توقف جريمة، مش توثقها.

إذا استمرّينا بالطريقة دي، هنيجي في لحظة نندم فيها، نندم على إننا ما اتصرفناش، وإننا بقينا جزءًا من آلة باردة، كل اللي يهمها التفاعل، مش الفعل، وساعتها، مش هيكون فيه فيديو بيكشف الحقيقة، ولا لايك بيغيّر المصير، لأن الحقيقة هتكون إننا كلنا ساهمنا في جريمة، حتى لو ما مسكناش السكين.

مشاركة علي

إرسال التعليق