كتب أحمد طنطاوي:
في ظل هيمنة المنصات الرقمية وتحكم خوارزميات السوشيال ميديا في توجيه المحتوى وتصدره، أصبح الذوق العام رهينة لمعادلات لا تُراعي القيم ولا الثقافة، بل تتبع فقط ما يحقق أكبر قدر من التفاعل، وفي هذا السياق المتغير، أصبحت الدراما، التي لطالما شكلت وجدان الشعوب وكانت مرآة لهويتها، مهددة بالتحول إلى مجرد وسيلة لإثارة الجدل وتحقيق نسب مشاهدة، ولو على حساب الرسالة والمضمون.
حول هذه التحولات وأبعادها، كان هذا التحقيق الذي يستند إلى حوار معمق مع الدكتور سامح عبد الغني، وكيل كلية الإعلام للدراسات العليا بجامعة الأزهر، والذي طرح من خلاله رؤى مهمة عن العلاقة بين المحتوى الرقمي، الذوق العام، وصناعة الوعي في العصر الحديث.
الدراما ليست مجرد وسيلة ترفيهية
يرى الدكتور سامح عبد الغني أن الدراما ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل هي من أبرز أدوات “القوة الناعمة” التي تؤثر بشكل مباشر في وجدان الجماهير، وتسهم في تشكيل قيمهم وسلوكياتهم. ويؤكد أن ما يُعرض على الشاشة، سواء في الأعمال الدرامية أو عبر المحتوى الرقمي، له دور محوري في صياغة الثقافة الشعبية، خصوصًا مع انحسار دور المؤسسات التقليدية، وتراجع القراءة، وهيمنة الصورة على الكلمة.
ومع انتشار المحتوى السطحي وتصدره للتريندات، يرى عبد الغني، أن جزءًا كبيرًا من المسؤولية يقع على صناع المحتوى الذين يلهثون خلف الانتشار، مستغلين طبيعة الجمهور الذي قد ينجذب أحيانًا لما هو مبتذل أو غير مألوف، إلى جانب غياب البدائل الجادة والجذابة.
لكنه يلفت النظر أيضًا إلى أن هذه الظاهرة ليست نتيجة ذوق فاسد بقدر ما هي مزيج من عوامل متشابكة، تشمل التوجيه المتعمد لبعض المنصات، وتغيرات اجتماعية وثقافية أعمق، فضلًا عن غياب التوازن في السوق الإعلامي.
دور منصات التواصل الاجتماعي
أما عن دور منصات التواصل الاجتماعي، فيؤكد الدكتور سامح أنها أصبحت اللاعب الأساسي في صناعة الرأي العام، ولكنها في الوقت نفسه لا تملك وعيًا أو أخلاقًا، بل تُدار بخوارزميات لا تميز بين محتوى راقٍ وآخر هابط، بل تعلي من شأن كل ما يحقق تفاعلًا ومشاركة، بصرف النظر عن جودته أو قيمته، وهذا ما يجعل المحتوى الهابط أكثر انتشارًا وتأثيرًا، خاصة مع ربطه بمكاسب مالية أو شهرة سريعة.
ويشير إلى أن هذه المعادلة الخطيرة تتطلب مراجعة شاملة، لأن المنصات الرقمية قد تُعيد تشكيل الواقع بدلًا من أن تعكسه فقط، وتُصنع عبرها تصورات مشوهة عن المجتمع وقيمه.
المؤسسات الأكاديمية ليست بعيدة عن المعادلة
وحول المسؤوليات، يؤكد الدكتور سامح أن المؤسسات الأكاديمية ليست بعيدة عن المعادلة، بل يقع على عاتقها دور كبير في مواجهة هذا الانحدار، ويقول إن دور كليات الإعلام لا يقتصر على تخريج مذيعين أو صحفيين، بل يشمل بناء وعي نقدي لدى الطلاب، وتدريبهم على إنتاج محتوى بديل يحترم عقل الجمهور ويعيد الاعتبار للأخلاقيات المهنية.
كما انتقد بشدة ترويج بعض الأعمال الدرامية لسلوكيات وألفاظ كانت مرفوضة مجتمعيًا، ويعتبر ذلك نوعًا من التطبيع مع نماذج سلبية تسهم في تشويه صورة المجتمع، خاصة في أذهان النشء.
الجهات الرقابية تبذل جهدًا ملحوظًا
وفيما يتعلق بدور الجهات الرقابية، يرى الدكتور سامح أنها تبذل جهدًا ملحوظًا، لكن أدواتها لم تعد كافية في عصر الرقمنة المفتوحة، مقترحا أن يكون هناك نوع جديد من الرقابة الواعية، التي لا تعتمد فقط على المنع، بل على تقديم بدائل إعلامية قوية مدعومة، وتفعيل دور الدولة في إنتاج أعمال فنية هادفة قادرة على المنافسة، دون التضحية بالقيم أو الذوق العام.
كما أكد أن حرية التعبير لا تعني الانفلات أو تجاوز الخطوط الحمراء الأخلاقية، بل يجب أن تكون هناك مسؤولية اجتماعية عند التعبير، خاصة في ما يتعلق بمحتوى تصل رسائله إلى ملايين المتلقين، خصوصًا من الشباب.
ووجه الدكتور سامح عبد الغني رسالتين واضحتين، الأولى إلى صناع المحتوى، مطالبًا إياهم بأن يكونوا أصحاب رسالة، لا مجرد صائدي تريندات، وأن يدركوا أن الكلمة والمشهد لا ينتهيان بانتهاء العرض، بل يتركان أثرًا طويل المدى في العقول والوجدان، أما رسالته الثانية فكانت إلى الشباب، داعيًا إياهم إلى أن يكونوا أكثر وعيًا في استهلاك المحتوى، وألا يتركوا أنفسهم أسرى لما تفرضه الخوارزميات، بل يكونوا جزءًا من عملية التقييم والاختيار، لأن الوعي مسؤولية جماعية، تبدأ من الفرد ولا تنتهي عند المؤسسات.
مشاركة علي
إرسال التعليق