أحمد طنطاوي.. يكتب:
زمان، كانت الأغنية المصرية أكتر من مجرد موسيقى تتسمع؛ كانت سفيرة وجدان الشعب، وصوت الشارع، وتعبير حي عن تفاصيل الحياة اليومية، من أم كلثوم اللي كانت حفلاتها طقس فني شهري، بيتكرر وتتوحد فيه مشاعر الوطن العربي،إلى عبد الحليم حافظ اللي غنّى الحب والخذلان والانتماء، مرورًا بجيل التسعينات اللي قدر يحافظ على روح الأغنية حتى وسط التغيرات، في الزمن ده، الأغنية ماكنتش مجرد تسلية، كانت حالة، وجدان جماعي، بتحكي حكايتنا كلنا.
دلوقتي؟ الصورة اتغيرت، كتير من الأغاني بقت مجرد “ساوندتراك” لتيك توك، بتطلع بسرعة وتختفي أسرع. الأغنية فقدت كتير من سحرها، وبقت تتصنع لأغراض لحظية، مش لذكريات تعيش. بقينا نسمع حاجة وننساها بعد يومين، لأن فيه أغنية تانية “تريند” خدت مكانها.
المشكلة مش في تغيّر الموسيقى، ولا في تجربة ألوان جديدة. بالعكس، التطور مطلوب، والفن لازم يعيش ويتجدد، لكن التغير اللي حصل ماكانش تطور طبيعي نابع من ذوق الناس أو احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، إنما كان مفروض علينا بمنطق السوق. بقى المعيار: “إيه اللي هيجيب فيو؟” مش “إيه اللي هيسيب أثر؟”. المنتج بيحسبها بالأرقام، والمطرب بيغني علشان ينتشر، مش علشان يلمس. وده خلّى جزء كبير من الأغنية يفقد إنسانيته.
لو بصينا للكلمات، هنلاقي تكرار، وألفاظ سطحية، واستسهال، وأحيانًا ابتذال، ماكنّاش نسمعه زمان في الفن العام. فين الشعر؟ فين التعبير؟ فين الحرفية في اختيار المعنى قبل الوزن؟ الأغنية فقدت دورها التربوي والثقافي، وبقت أداة فارغة بدل ما تكون وسيلة لنقل المشاعر أو الحلم.
وسائل التواصل كمان لعبت دور كبير. صحيح إنها فتحت الأبواب، لكنها في نفس الوقت حولت الشهرة لحاجة لحظية. أي حد عنده صوت متوسط، وكاميرا كويسة، وشوية متابعين، يقدر يعمل أغنية تنتشر. لكن مفيش ضمان للجودة، ولا حتى نية لتقديم حاجة صادقة. وده عمل نوع من التشويش الفني، خلى الجمهور يتوه، ويبقى مشغول بالأحدث مش بالأفضل، وبالضجة مش بالقيمة.
رغم كده، لسه فيه أمل. فيه تجارب بتحاول ترجع الروح للأغنية. مطربين شباب بيكتبوا لنفسهم، وبيغنوا اللي حاسين بيه، مش اللي السوق طالبهم يعملوه. بيشتغلوا على مهل، ويمكن ما يوصلوش بسرعة، لكن وجودهم بيقول إن لسه فيه ناس مؤمنة إن الأغنية مش بس منتج، لكنها رسالة.
في النهاية، الأغنية مش بس لحن حلو. هي مرآة للي جوانا. ولما الأغنية تتغير، فده معناه إن فينا حاجة اتغيرت، لكن لو المرآة اتكسرت، بنفقد القدرة على رؤية نفسنا. والأسوأ، إننا ننسى شكلنا الفني الحقيقي، ونعيش في انعكاسات مش بتشبهنا.
مشاركة علي
إرسال التعليق